الاثنين، 29 ديسمبر 2014

الإخلاص.. صفة الربانيين

الإخلاص.. صفة الربانيين


الإخلاص سر من أسرار الله عز وجل يودعه قلب من يشاء من عباده، فهو أساس قبول العمل، ومناط تلقي الله عز وجل له بعين الرضا، ذلك لأن الإخلاص هو عنوان التوحيد الخالص، فحينما يبتغي العبد بعمله وجه ربه فإنه ينفي عن الله عز وجل الشريك والند.

نحن إذن نتحدث عن خلاصة الدين ومفتاح قبول الله تعالى للأعمال، وقد أكدَ القرآنُ هذا المعنى في مواضع كثيرة، قال سبحانه: "ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله"  النساء 125  وقال تَعَالَى: "قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي ، فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ"  الزمر 14 ، وقوله تَعَالَى: "وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ" البينة5، وقال تعالى: "فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً" الكهف 110

وفي السنة كذلك تأكيد على مكانة هذه الصفة ووجوب التحلي بها، ففي الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة  قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم  قال الله تعالى: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري، تركته وشركه"، وفي موضع آخر يؤكد صلى الله عليه وسلم على بعض الأعمال التي لا يستطيع الإنسان فيها تخليص نيته ، ويحذر منها تحذيرا شديدا، فيقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أبو داوود: "من تعلم علماً بما يبتغى به وجه الله عز وجل لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة (يعني ريحها) يوم القيامة".

ويبين النبي صلى الله عليه وسلم مآل بعض الأعمال التي لا تكون خالصة لوجهه تعالى مع أنها تحمل في ظاهرها طاعة ، فيقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: "إن أول الناس يُقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتي به، فعرفه نعمته فعرفها قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت ولكنك قاتلت ليقال: جريء فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار.. ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتي به يعرفه نعمه فعرفها، قال فما عملت؟ قال تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن قال: كذبت ولكن تعلمت ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وسع الله عليه، وأعطاه من صنوف المال فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها ألا أنفقت فيها قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها لك، قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال: جواد، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار"

الإخلاص إذن سر الأسرار، ولذا يقول عنه ابن القيم رحمه الله  في تعبير جميل عن فوائد الإخلاص وآثاره على العبد في الدنيا والآخرة : "الإخلاص والتوحيد شجرة في القلب؛ فروعها الأعمال، وثمرها طِـيب الحياة في الدنيا والنعيم المقيم في الآخرة، وكما أن ثمار الجنة لا مقطوعة ولا ممنوعة فثمرة التوحيد والإخلاص في الدنيا كذلك.. والشرك والكذب والرياء شجرة في القلب ؛ ثمرها في الدنيا الخوف والهم والغم وضيق الصدر وظلمة القلب، وثمرها في الآخرة الزقوم والعذاب المقيم، وقد ذكر الله هاتين الشجرتين في سورة إبراهيم".

المسلم مع الإخلاص إذن على موعد مع طيب الحياة في الدنيا، والنعيم المقيم في الآخرة، على موعد مع راحة القلب التي يثمرها الإخلاص، فالقلب المخلص لا يحمل حقدا ولا غلا ولا حسدا، بل يحمل إيمانا صادقا ويقينا راسخا، ويرى مواطن الجمال في كل شيء حوله، فتكتب له الراحة.
المسلم مع الإخلاص على موعد مع النماء.. يزيد الله الاعمال الصالحة وينميها لك، حتى ولو كانت قليلة في نظرك صغيرة عند الناس لا يأبه أحدهم بها.. واستمع لشيخ الإسلام بن تيمية وهو يبرهن على هذا المعنى ويقول رحمه الله: "والنوع الواحد من العمل قد يفعله الإنسان على وجه يكمل فيه إخلاصه وعبوديته لله ، فيغفر الله به كبائر الذنوب كما في حديث البطاقة، وحديث البطاقة كما أخرجه الترمذي وحسنه والنسائي وابن حبان والحاكم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص  قال: قال رسول الله : "يصاح برجل من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر له تسعة وتسعون سجلاً، كل سجل منها مدّ البصر، ثم يقال: أتنكر من هذا شيئاً ؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب، فيقال: أفلك عذر أو حسنة فيها ؟ فيقول الرجل: لا، فيقال: بلى إن لك عندنا حسنة وإنه لا ظلم عليك اليوم، فيخرج له بطاقة فيها، أشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله ، فيقول: يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات، فيقال: إنك لا تظلم، فتوضع السجلات في كفة، والبطاقة في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة"

نعم ثقلت البطاقة مع صغرها وقلة العمل فيها لأن العمل فيها كان ابتغاء مرضاة الله، كان الإخلاص فيها أصل، ولم يكن لأحد من الناس فيها نصيب.
ويقول بن القيم رحمه الله معلقا على حديث البطاقة أيضا: "فالأعمال لا تتفاضل بصورها وعددها، وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب، فتكون صورة العملين واحدة، وبينهما من التفاضل كما بين السماء والأرض"

ومن هذا أيضاً حديث الرجل الذي سقى الكلب، وفي رواية: بغي من بغايا بني إسرائيل، ففي الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  قال: "بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش، فوجد بئراً فنزل فيها فشرب، ثم خرج فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي قد بلغ مني ، فنزل البئر فملأ خفّه ماءً ثم أمسكه بفيه حتى رقى فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له، قالوا: يا رسول الله إن لنا في البهائم أجراً؟ فقال: في كل كبد رطبة أجر" وفي رواية البخاري: "فشكر الله له فغفر له فأدخله الجنة". 

ومن هذا أيضاً ما رواه مسلم عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لقد رأيت رجلاً يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي المسلمين"، وفي رواية: "مر رجل بغصن شجرة على ظهر طريق فقال: والله لأنحين هذا عن المسلمين لا يؤذيهم فأُدخل الجنة."
قال شيخ الإسلام رحمه الله معلقاً على حديث البغي التي سقت الكلب وحديث الرجل الذي أماط الأذى عن الطريق قال رحمه الله: فهذه سقت الكلب بإيمان خالص كان في قلبها فغفر لها، وإلا فليس كل بغي سقت كلباً يغفر لها.

نسأل الله الإخلاص في القول والعمل ..

0 التعليقات :

إرسال تعليق